والمعني بالشام هنا مدينة دمشق التي أخذت من بلاد الشام هذا الاسم، وتماهت مع بلاد الشام المقسمة الآن إلى أربع دول، وكان لدمشق تاريخ مميز يختلف عن تاريخ معظم مدن الأرض، لأنها أقدم المدن التي مازالت مسكونة في العالم.
اشتهرت دمشق بغوطتيها الشرقية والغربية اللتين كانتا مغطيتين بجميع أنواع الأشجار المثمرة لمختلف أنواع الفاكهة المتوسطية، كما اشتهرت بنهر بردى الذي كانت مياهه تتدفق طوال العام، فحتى قبل خمسين عاماً كانت هذه المياه تنقل معها الفواكه المتساقطة من الأشجار المزروعة على ضفتي النهر في الغوطة الغربية.
وكان يمكن لفقراء دمشق أن يجلسوا على حافة النهر ويلتقطوا هذه الفواكه مما يغنيهم عن شرائها. لقد جف بردى الآن بعد أن حفر كبار الضباط وأهل السلطة آباراً ارتوازية في مزارعهم التي أنشأوها على ضفتيه من منبعه إلى مصبه، فغارت مياهه ولم تعد تجري فيه سوى شهرين او ثلاثة في العام، وذهب بيت شوقي الشهير في مدح النهر الذي يقول (جرى وصفق يلقانا بها بردى كما تلقاك دون الخلد رضوان) أدراج الرياح.
ولم يعد بردى يلقى أحداً من زوار دمشق، بل أخذت روائحه غير المستحبة تنتشر في فضاء المدينة معظم أشهر العام، كما لم يعد (الحور في دمر أو حول هامتها) الذي أعجب به شوقي موجوداً، ونبتت بدلاً منه أشجار قزمة، أو تحولت بساتينه إلى قفار.
قال الشاعر مظفر النواب (إنها دمشق، امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء، وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي، ومدرسة عشرين نبي، الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله). فقد عاش في دمشق عديد من العلماء والشعراء والفنانين والأئمة والسياسيين والقادة العسكريين منذ وصول الإسلام إليها حتى الآن، وبقيت مزارات وقبور بعضهم ماثلة في أحياء المدينة تستقبل الزوار، كأضرحة معاوية بن أبي سفيان، وصلاح الدين الأيوبي.
ومحي الدين ابن عربي وغيرهم، إلا أن معظم هذه الأضرحة يكاد يصبح دارساً وتضيع ملامحه بسبب الإهمال، فمن يزور ضريح معاوية بن أبي سفيان مثلاً لابد أن يشعر بالحزن والأسى لتواضع قبر هذا الرجل العظيم وعدم الاهتمام به وكثرة النفايات حوله.
وقد نجا ضريح صلاح الدين الأيوبي من (البهدلة) لأنه في مدخل الجامع الأموي، كما نجا ضريح محي الدين بن عربي بسبب الطابع الديني لهذا الضريح. عكس بقية الأضرحة، وفي الوقت نفسه تتعدد مواقع التراث الديني المسيحي الغني في دمشق.
وأشير خاصة إلى الشارع الطويل أو مدحت باشا وهو الشارع الذي مر به (بولس الرسول) في العقود الأولى للمسيحية، فضلاً عن الكنائس والمعابد الكثيرة، وبدلاً من حفظ وتجديد الأضرحة والآثار والمواقع والأوابد التاريخية والدينية في دمشق القديمة، غزتها المطاعم والفنادق و(رذالات) الأغنياء الجدد، ونمط الحياة الاستهلاكي، والفنون الهابطة وما يشبه ذلك.
كان الدمشقيون والسوريون عموماً، بل وأهالي بلاد الشام، يفتخرون بمدينة دمشق وعمرانها وفنونها وآثارها وأوابدها ومعالمها الدينية والثقافية والتاريخية، وتقاليدها ودورها الثقافي والإنساني والسياسي في المنطقة. ويفتخر سكان دمشق بسكناها ويرددون مع الشاعر القروي (حتى م تحسبها أضغاث أحلام سبح لربك وانحر أنت في الشام).
ماذا حلّ بدمشق الآن؟
أزيلت غوطتيها وصارت قاعاً صفصفاً، وحل محل أشجارها وغياضها إما أبنية إسمنتية، أو منشآت حديثة كالمعامل التي تزود الغوطة بالأوساخ والتلوث، أو بالمطاعم (التي لم يعد يرتادها أحد الآن) كما أحاطت بها من كل جانب العشوائيات وسكانها القادمين من الريف، حتى وصل عدد سكان هذه العشوائيات، إلى ضعف سكان دمشق الأصليين وامتلأت شوارعها بالحواجز العسكرية في الأشهر الأخيرة.
ويحتاج المرء لأكثر من ساعة ليقطع كيلو متر واحد أو اثنين داخل المدينة في بعض المناطق، في الوقت الذي يهرب النوم من طلقات المدفعية والرصاص طوال الليل.
هذا فضلاً عن الصعوبة والخوف بل والذعر من التجول ليلاً، أو أثناء زيارة صديق، أو ارتياد مطعم أو مقهى أو محل عام، فبعد الغروب تكاد تشعر أن المدينة تعيش في ظل قوانين منع التجول، ولأسباب أمنية أغلقت الشوارع والمنافذ والطرقات حول المراكز العسكرية والأمنية المنتشرة في المدينة (وما أكثرها).
وحول بعض مؤسسات الدولة، ومنازل بعض الضباط أو المسؤولين، وتحول السير إلى شوارع أخرى، حتى غدا الازدحام في دمشق كابوساً يقلق المتنقلين في شوارعها، وقد تجرأ بعض الضباط والمسؤولين الثانويين على إغلاق الشوارع وزيادة الحراسات حول بيوتهم دون أي سبب جدي، فهم ليسوا مهددين وليس عليهم أي خطر.
وكأنهم يعتقدون أن إغلاق الشارع أو زيادة الحراسة حول بيوتهم يعطيهم أهمية اجتماعية أو سياسية، مع أنه في الواقع يعرضهم للشتائم (السرية) والاحتقار (غير المعلن) وربما يتساءل السوريون لماذا يدفعون رواتب لعشرات الجنود لحماية هذا الضابط أو ذاك وهو لايحتاج لحماية، وكيف تحول الجنود السوريون إلى خدم لدى ضباطهم كما كان الحال أيام السلطنة العثمانية.
وفهم السوريون بدقة معنى نظام (السخرة) الذي كان سائداً أيام حكم العثمانيين. وهكذا امتلأت شوارع دمشق وحواريها بالحواجز وأكياس الرمل التي تغلق الطرقات وبالسيارات المزدحمة في الشوارع الأخرى، ورافق ذلك كله بالضرورة الخوف الدائم لدى السوريين من كل ما حولهم ومن حولهم.
لم تعد دمشق هي نفسها التي كانت قبل خمسين عاماً نظيفة مهفهفة تنتشر فيها رائحة الياسمين في كل شارع، ويسعد أهلها بالسيران إلى الغوطة كل يوم جمعة، يحملون معهم (الخبز والحاكي) ويمضون نهارهم على جوانب بردى وتفرعاته، وتحت ظلال أشجار الغوطة. ومع ذلك يحب أهل دمشق مدينتهم التي دمر القصف أحياءها المحيطية ويرددون قول الشاعر (قالوا تحب الشام قلت بلى فجوانحي مدفونة فيها وقلت فؤادي).